تألمّت العجوزُ رَحْمَةُ بظَمئِها وحُمّاها وشَيْخُوختها ووَحْدَتِهَا، وَلَمْ يَكُن الْهَذَيانُ بِها رَحيماً، فَبَدَلَ أَنْ تَتَخَيَّلَ الينابِيعَ الثرّّارةَ والمياهَ الصّافِيةَ، تَخَيّلَتْ دَارَها صَارَتْ فُرنًا هَائِلاً ينَفُْثُ أَلَسِنةً مِنَ لَهَبٍ تَصِلُ إلى ارتفاعاتٍ كَبيرةٍ، وتخيّلتْ نَفَسَها آنيةً بَين الأَواني الّتي صَنَعَتْها فِي جَوْفِ ذلك الفُرْن الرّهيبِ!
«أَنَا آنيةٌ أَنا فَخَّارٌ، مَنْ يَشْرَِيني ؟.. أَنا أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ الأوَانِي.. الفَخَّارُ لَا يَتَكَلَّمُ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ..مَنْ يَشْرَيِنِي ؟ ..أَنَا آنِيَةٌ أَصْلُحُ لِلْماَءِ لِلطّعَامِ لِلزُّهُورِ.. انظرُوا إلى النّارِ تَلْتَهِمُنِي.. إِنَّهَا تَصْهَرُنِي لَِأزْدَادَ جَماَلً ! أَنَا آنِيَةٌ أَصْلُحُ لِلْماَءِ لِلطّعَامِ لِلزُّهُورِ.. أَنتمْ لَسْتُم أَوانِي..أَنْتُمْ لَازِلْتُمْ طِينًا، لَمْ تَصْقُلْكُمْ يَدٌ مِثْلُ الّتِي صَقَلَتْنِي، وَلَا صَهَرْتَكُمْ نَارٌ مِثْلَ الّتِي أَنَا فِيْهَا…»
كَانَ الطِّفْلُ عَبْدُ القادرِ قَدْ رَجَعَ بُرْهَةً مِنْ الوَقْتِ فَوَجَدَهَا فِي حَالَةِ هَذَيانٍ، وَلَوْلَا أنَّ أُمّهُ أَوَصَتْهُ بِالبَقَاءِ عِنْدَهَا حَتَّى تَأَتِي هِيَ لَخَرَجَ لِتَوّهِ ؛ لِأنَّ مَنْظَر العُجوزِ أذَعَْرهَ،ُ و خَشِيَ أَنْ تَوَتَ قَبْلَ مَجِيءِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَأَخَذَ يُنَادِيِهَا : « جَدَّة رَحْمَة ! جَدَّة رَحْمَة!». بَقِيَتْ كَذَلِكَ حَوَالِي سَاعَةٍ، ثُمَّ أَخَذَ الهُدوءُ يَعُوُدُ إِلَيْهَا. وَمَعَ الهُدُوءِ جَاءَ الوَعْيُ، فَرَأَتْ عَبْدَ القَادِرِ جَالِسًا إِلَى جَانِبهَا فَابْتَسَمَتْ لَهُ، وَأَشَارَتْ لَهُ مُتَمْتِمَةً بِكَلِماتٍ مُتَقَطِّعَةٍ أَنْ يُنَاوِلَها المَاءَ فَفَعَلَ.
وَفَرِحَ الطِّفْلُ أَنْ رَأَى وَعْيَهَا يَعُودُ إِلَيْهَا. وَأَخْبََرهَا أَنَّ أُمَّهُ وَ أُخْتَهُ قَادِمَتَانِ لِقَضَاءِ اللَّيْلَةِ مَعَهَا، وَ أَنّ أَبَاهُ أَرْسَلَ إِلَى مَالِكٍ مَنْ يُخْبرُِهُ بَِمرَضِهَا.
فَقَالَتْ لَهُ العَجُوزُ بِكَلِماَتٍ لَا تَكَادُ تَبِينُ : «لِماذَا يُرْسَلُ إِلَيْهِ، لِماذَا؟ سَيُزْعِجُهُ وَقَدْ يَكُونُ مَشْغُولً بِأَعَمَالِهِ » فَأَفْهَمَهَا الطِّفْلُ أَنَّهَا هِيَ الّتِي طَلَبَتْ ذَلِكَ. فَأَجَابَتْ :
– « كُنْتُ أَهْذِي يَا وَلَدِي » فَأَجَابَ الطِّفْلُ :
–«نعََمْ كنُت تهَذِْينَ.. وَلكَِنْ عِندَْمَا سَألَتِْ عنَْ مَالكٍِ لمَْ يكَنُْ يظَهْرَُ علَيَكِْ أنَكَِّ تهَذِْينَ!».
–«لَمْ أَتَذَكَّرْ يَابُنَيَّ. أَنْتَ عَلَ حَقّ»
وَ أَغّمَضَتْ عَيْنَيْهَا مِنْ جَدِيدٍ. وبالرُّغْمِ مِنَ الجَهْدِ الكَبيرِ الّذِي بَذَلَتْهُ لِكَيْ تَبْقَى تُؤْنِسُ الطِّفْلَ وَ تُحدِّثُهُ، فَإِنَّهَا فِي النِّهايةِ اسْتَسْلَمَتْ لِلْإرْهَاقِ الَّذِي سَلَّطَتْهُ عَلَيْهَا الحُمَّى.
ريح الجنوب «عبد الحميد بن هدوقة»
جماعة الليسي اكم تشفاو؟